سورةٌ قصيرةٌ في مبناها، كبيرةٌ في معناها...
إذا وصل القارئ لهداياتها وكنوزها عرف أن القرآن مُعجِزٌ في قِصارهِ كما أنه مُعجزٌ في طواله..!
سورةُ "الكوثر" ومعها سورةُ "الشرح" وسورة "الضُحى"، هذه السور الثلاث تُبيّنُ جانباً من عناية الله ورعايته بنبيه عليه الصلاة والسلام..
حين انقطع الوحي عن رسول الله فترة من الزمن اتهمه المشركون بأن ربهُ قَلاهـ "أي أبغضه وتركه"، فنزلت سورة الضحى وأقسم الله لنبيه أنه ما تركه ولا قلاهُـ ولا أبغضه..!
حينما لاقى رسول الله من قومه ما لاقى من صدٍ وإعراض وتكذيب وحصار وطرد وتسفيه نزلت سورة الشرح تُصبّر، تُؤنِس، تُثبّت..
اصبر يا محمد (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)،
سنةٌ إلهيةٌ لا تتبدل ولا تتغير، انتظرها، ارتقبها، مهما طال الأمر ولو أخذ سنين ..
تشمّت كفار قريش برسول الله حين مات أولاده الذكور وقالوا عنه الأبتر "الذي انقطع ذكره" لأنه لم يبقَ له أولاد ذكور .. فنزلت الكوثر لتمسحَ وجعاً عن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام..
إنها عناية الله حين تُحيط بالعبد...
______________
﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾
اُفتتحت بضمير التعظيم، وضميرُ التعظيم إذا ذُكِرَ في شيء ذُكِرَ في المُعجِز؛ لأن الكوثر لا أحد يستطيع أن يعطيك مثله أبداً،
فالعظيمُ إذا امتنَّ امتنّ بعظيم..!
الكوثر كما قال عليه الصلاة والسلام:" نهرٌ وعدنيه ربي.." _ رواه مسلم 607
ووصفه بقوله:" حافّتاهُ من ذهب، ومجراهُ الدر والياقوت، تربتُه أطيبُ من المسك، وماؤُه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" _ صحيح الجامع 4615
سُمي بالكوثر: لكثرة مائه وآنيته وعِظمِ قدْره وخيره..
هل الكوثر هو الحوض؟؟
• الحوض: هو مجمع الماء ويكون في أرض المحشر.
• والكوثر هو النهر الذي في الجنة له ميزابَان أحدهما من ذهب والآخر من فضة يصبّان في الحوض.
ضرب رسول الله موعداً بينه وبين أمته فقال:
( أنا فرَطُكم على الحوض)
يعني: أنا سابقكم إلى الحوض انتظركم هناك...
ولماذا؟
حتى يسقيهم...!
فالناس حين يخرجون من قبورهم يكونون عطشى .. الحر شديد، والشمسُ تدنو منهم قدر ميل، والعرق يُلجمهم، والوقوف طويل، إنه يومُ الظمأ الأكبر وهم أحوج ما يكونون لشربةِ ماء..
فينتظرهم بأبي هو وأمي حتى يسقيهم من حوضه...
______________
هل كل أمة محمد _صلى الله عليه وسلم_ سيشربون من حوضه..؟
• الجواب: لا.
هناك أناسُ سيردون الحوض ويشربون، ومن شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبدا وهذه كرامة جعلها الله لعباده .. وهناك أناس سُيطردون ويُذادون عن الحوض.
منا من سيشرب مباشرة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنا من سيشرب من الأكواز الموضوعة على حواف الحوض وهي بعدد نجوم السماء..
فالمؤمنون يردون الحوض ويشربون على حسب درجهتم وإيمانهم..نسأل الله من فضله.
أعظم ما يُوصل للسقيا لزوم سنته عليه الصلاة والسلام والتمسك بها والحرص عليها والحذر من مخالفتها أو الابتداع والإحداث فيها.
جاء في مسند الإمام أحمد ذكر صفات لأول من يرد على الحوض..
"الشّعِثة روؤسهم، الشّحِبة وجوههم، الدَّنِسة ثيابهم، لا يُفتحُ لهم السُدُد، ولا ينكِحون المتنعمات، الذين يُعطون كل الذي عليهم ولا يأخذون الذي لهم.."
وكلها صفات تدل على تواضعهم، وصبرهم، وعبادتهم، ورقة حالهم...
______________
من الذين سيُطردون عن الحوض..؟
••الذين أحدثوا وبدّلوا وغيروا في دين الله وخالفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك..!
وعلى رأسهم أهل البدع والطرق والأهواء، غرّهم الشيطان، لبّس عليهم دينهم حتى استحسنوا البدع واقتنعوا بها وأقنعوا بها غيرهم أنها دين وعبادة ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم له ولآل بيته..!!
قدّموا عقولهم وآرائهم وعواطفهم على النصوص والأدلة ..
كثيرٌ منهم يدعي أنه لا يريد إلا الخير والذكر .. وكم من مُريدٍ للخير لم يُصبه..!
إنما الخير كل الخير في اتباع هديه عليه الصلاة والسلام، فليست الفضيلة بوجود التعبد بأي صورة إنما الفضيلة في اتباعه وكما قال السلف:
"اقتصادٌ في سُـنّـة خيرٌ من اجتهادٍ في بِدعة.."
نهى سعيد بن المسيب رجلا أخذ يصلي بعد راتبة الفجر فقال الرجل: يا أبا محمد يُعذبني الله على الصلاة؟
قال: لا، ولكن يعذبك على مخالفة السنة..! _ (الدارمي)
______________
هل الكوثر محصور في هذا النهر فقط..؟
• الجواب: لا، لأن الكوثر صيغة من الكثرة، فهو الخير الكثير المطلق الغير محدود...
فمن الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه
أنه ما اقترن اسمُ نبي بإسم الله تعالى كما اقترن اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأين؟ في أعظم وأشرف وأثقل كلمة ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)..
اجتمع أهل السماء وأهل الأرض في الثناء عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...)
اللهُ من فوق سبع سموات يُثني عليه، والملائكة بكثرتهم الكاثرة التي لا يعلمها إلا الله تستغفر وتدعو له..!
لم يجعل الله طريقا لمحبته إلا عن طريق هذا النبي ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ..
لم يقسم الله بعمر أحد من الخلق إلا بعمر محمد..( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ..
قلبُه أول قلب بشري يستقبل القرآن،
لسانه أول من قرأ القرآن،
صدرهُ شُرح بلا طلب..(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ..)
أُسري به إلى السماء ووصل لمقام لم يصله أحد من الخلق حتى سمع صريف الأقلام..!
أُعطي المقام المحمود،
والشفاعة العظمى..
والخُلق العظيم...
______________
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر ..}
إن مُبغضك وكارهك والذي تشمّت بك هو الأبتر المقطوع من كل خير..
أين هم الآن؟ ماذا بقي لهم؟
تأمل كيف بقي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر، والألسنة، والمساجد، والقلوب..
بقيت سنته وهديه وبقيت شريعته ودينه..
أصحاب العقول الضيقه والفكر المحصور، يعتقدون أن نسب المرء لا يستمر إلا إذا كان له أولادا ذكورا..!!
نسوا أن السيرة الصالحة والأعمال الحسنة عمرٌ ثاني وحياةٌ ممتدة ستبقى للإنسان..!
لا يستغرقك النقص الذي اُبتليتَ به في حياتك، فمهما بدا لك بأن عندك نقصٌ في أمور دنياك فانظر للزاوية الأخرى من حياتك ستجد خيراً عظيماً أعطاه الله لك..
فما منا من أحدٍ إلا وقد رزقه الله وأعطاه الله..
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..}
يارب أوزعنا شكر نعمك...
••• تم بحمد الله الانتهاء من تدبر سورة الكوثر، تقبل الله منا ونفعنا بها ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق